الأب الدكتور جورج عطية
مقدمة علم اللاهوت العقائدي والمقارن لكنيسة الروم الأرثوذكس
لكي نأخذ فكرة واضحة عن موضوع واهمية اللاهوت العقائدي والمقارن يحسن بنا أولاً أن نلقي بعض الضوء التي تحملها كل من الكلمات المؤلفة لعنوانها:
اللاهوت
تشتق كلمة " لاهوت Θεολογια من دمج كلمتين " θεος الله وَ λογος كلمة " ، وتعني لغوياً كلاماً حول الله. وقد ارتبط اسنعمالها في لغة اليونان الأقدمين مع المفاهيم الوثنية عن الألوهة من أساطير وسحر ، ولهذا تجنبها المسيحيون الأوائل نظراً لما يتركه استعمالها من انطباع سيء بسبب هذا الارتباط.
ولكن اعتباراً من القرن الثالث أخذت هذه اللفظة تدريجياً وبفحوى جديد تحتل مكاناً بارزاً في علم الاصطلاحات اللاهوتية، فمثلاً أوريجانس يسمي " لاهوتيين الذين يتكلمون عن الله وهم ممتلؤون من الروح القدس ... مثل موسى وبقية الأنبياء عموماً وبصورة خاصة يسوع المسيح " . أفسافيوس القيصري يعتبر أن المسيحيين هم لاهوتيين لأنهم يرنمون تسابيح لله لكنه من بين هؤلاء يميز بشكل خاص كلاهوتيين ، المعلمين الكنسيين لأنهم يعلمون معرفة الحق الإلهي. القديس غريغوريوس النزينزي يؤكد أنه " ليس للكل أن يتكلموا عن الله ولا الأمر سهلاً بالنسبة للذين أتوا من التراب ( عامة البشر )...بل فقط للذين امتحنوا ووصلوا إلى الرؤية θεορια بعد أن طهّروا النفس والجسد ، لأنه ليس لغير الطاهر أن يلمس الطاهر ويكون بأمان مثلما لا يستطيع النظر الضعيف أن يحدّق في أشعة الشمس القوية ".
انطلاقاً من هذا المفهوم استعملت كلمة " لاهوت " والفعل المشتق منها θεολογω ليدلان على الرؤية الإلهية واتحاد النفس سرياً مع الله، لذلك عندما يقال مثلاً بأن الملائكة θεολογουσι لا يقصد أن الملائكة يتكلمون عن الله بل أنهم يرون الله، وبمعنى عام آبائي، فاللاهوتي هو الذي وصل بنور الروح القدس إلى رؤية المجد الإلهي، وهو ما يشمل جميع الملائكة والقديسين. لكن ليس كل من رأى مجد الله عبّر بالضرورة عن هذه الرؤية أو سجّلها كتابة، ولهذا فكلمة لاهوتي بمعناها الخاص تعني من جمع بين الرؤية الإلهية وبين إمكانية التعبير عنها بإلهام الروح القدس . وهو ما ينطبق على الأنبياء والرسل والآباء القديسين . أما بالمعنى الأخص فهي تشير إلى دخول متميز إلى عالم الرؤية الإلهية ومقدرة فريدة في الحديث عنها. ومن هنا نفهم لماذا عبر تاريخ الكنيسة الطويل لقِّب ثلاتة قديسين فقط باللاهوتيين ( يوحنا الإنجيلي، غريغوريوس النزينزي ، سمعان اللاهوتي الجديد ) . وبالطبع فهذا لايعني أن القديسين الآخرين لم يصلوا إلى الرؤية الإلهية بل أن اللاهوتيين الثلاثة حلقوا وتميزوا في التعبير عنها بشكل خاص.
بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج بأن اصطلاح " لاهوت " قد تطور من مفهوم الكلام عن الله بالروح القدس ، بعد رؤية مجده، إلى مجرد الكلام عنه. ومن الكلام عن الله الثلاثي الأقانيم إلى الحديث عن عمل الأقانيم أو ما يسمى بسر التدبير الإلهي أو سر الخلاص. وأخيراً صار في المدارس اللاهوتية العلم الذي يبحث في كل ما له علاقة بالإعلان الإلهي ومسيرة الكنيسة في التاريخ.
بعض اللاهوتيين الأرثوذكس يرفضون أن يسموا اللاهوت علماً والبعض الآخر يقبل ومنهم من يتحفّظ. ما يهمنا نحن بالدرجة الأولى ليس التسميات بل التذكير بالطابع الروحي والحياتي لدراستنا اللاهوتية وعدم فصلها عن مفهوم الرؤية الإلهية . لأنه بصورة بديهية من لم يتعرف على الله شخصياً أي لم يصل إلى الشركة والاتحاد معه بنعمة الروح القدس فكيف بإمكانه أن يتكلم عنه وهو المجهول بالكلية والمختلف بصورة مطلقة عن كل ما نراه من المخلوقات ؟ " فبمن تشبّهون الله وأي شبه تعادلون به ؟ " ( أش 40: 8 ) " لأنه كما علت السماوات على الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن افكاركم " ( إش 54: 9 ) . صحيح أن هناك كلام كثير عن الله ، ومن بينه كلام الكتاب المقدس ذاته. ولكن معرفة كل ما كتب عن الله وحتى حفظه غيباً والتأمل الفكري في هذه المعرفة وحتى الكتابة عنها لا يكفي لأن يجعل الإنسان عارفاً حقاً بالله أي لاهوتياً ، بل يجب أن تقترن معرفة كلام الله بالإيمان ، والإيمان بلقاء شخصي حيّ. لأن الحق ليس كلاماً بل شخصاً " أنا هو الطريق والحق والحياة وليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي " ( يو14: 6 ).
من هنا لا يحق لمن ليس لديه معرفة مباشرة أي شركة شخصية مع الله أن يتكلم عنه. وإن لم توجد هذه المعرفة فعلى الأقل أن يصير اعتماد تام على خبرة الأنبياء والرسل والقديسين في معرفتهم لله ، ومحاولة الحياة بحسب هذه الخبرة في كنيسة الله بمساعدة روح الله الساكن فيها. بكلمة أخرى الذي هو خارج جسد المسيح وخارج الجهاد ضد الشيطان والخطيئة من أجل الوصول إلى الكمال في المسيح لا يمكنه ان يكون لاهوتياً ولا أن يتكلم عن أسرار ملكوت الله ، لأنه حتماً سيخلط بين أفكاره البشرية المسبقة والمظلمة بسبب الخطيئة، وبين حقيقة المسيح. ولن ينفعه أبداً استعمال فكر أو منطق أو اعتماد على مؤهلات علمية. وأي مؤمن مسيحي بسيط يعيش إيمانه بصدق هو لاهوتي أكثر منه وتنطبق عليه كلمة القديس ذياذوخوس " ليس هناك أفقر من الفكر الذي يتكلم عن الله θεολοει وهو يقف بعيداً عنه " .
العقائدي
استعملت كلمة δογμα " عقيدة " عند الإغريق القدماء لتدل على معانِ متقاربة منها " رأي ؛ تعليم فلسفي ؛ وصية؛ أمر ؛ قانون عام " وقد وردت هذه اللفظة بمعانيها المتعددة بضع مرات في الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم، وخمس مرات في العهد الجديد. إنما بالمعنى الخاص الذي ستستعمله الكنيسة فيما بعد كقرار ملزم صادر عن مجمع ذي سلطة كنسية عليا، فلم يرد إلا مرة واحدة في أعمال الرسل كنتيجة لمجمع الرسل الذي التأم في اورشليم " وإذ كانوا يجتازون المدن كانوا يسلمونهم العقائد التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم ليحفظوها " ( أع 16: 4 ).
مجمع أورشليم كمثال للمجامع المسكونية المحددة للعقائد
ولنتوقف قليلاً عند هذا المجمع ذي الأهمية الفائقة لأنه على مثاله ستنعقد فيما بعد المجامع المسكونية والتي سيصدر عنها تحديدات عقائدية فنلاحظ الأمور التالية:
1- إن انعقاد المجمع الرسولي لم يتم بهدف صياغة عقائد أو قضايا جديدة لم تكن معروفة من قبل، وإنما سبب الدعوة إليه كان النزاع الطاريء الذي حدث بين الرسولين بولس وبرنابا من جهة وبين بعض المسيحيين من أصل يهودي من جهة أخرى حول السؤال إن كان يجب أن يحفظ الأخوة من أصل أممي الناموس الموسوي أم لا ؟ ( أع 15: 1-2 ) .
2- أعضاء المجمع النافذون هم الرسل والمشايخ أي الرعاة الكبار الممثلون للكنيسة كلها " فاجتمع الرسل والمشايخ لينظروا في الأمر " ( أع15: 6 )
3- قرارات المجمع صدرت بعد مباحثات كثيرة وبرز بين المتكلمين الرسل أي الشهود الرسميون ليسوع ، ولكن المهم أن القرار صدر باسم الروح القدس وباسم الكنيسة " لأنه قد رأى الروح القدس ونحن " ( أع 15: 28 ) . وهذه العبارة ليست شكلية، ولا تعني كما يظن البعض أنه بمجرد أن اجتمع ممثلون رسميون عن الكنيسة فقراراتهم بالضرورة هي قرارات الروح القدس. إنما لكي يتم ذلك يجب أن يكون الاجتماع باسم يسوع ولأجل مجده" متى اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم " وأن يكون بين الحاضرين من عندهم الروح القدس فعلاً، وصاروا قادرين أن يعرفوا مشيئته ويرشدوا الآخرين إليها.
4- إن الذي صاغ ونطق بالقرار الرسمي الذي قبل به الحاضرون بعد ذلك لم يكن الرسول بطرس بل يعقوب أخو الرب أسقف أورشليم والمترئس على ما يبدو للمجمع " لذلك انا أرى ألا يُثقل ... " ( أع15: 19 ) . نقول هذا لا لننقص لا سمح الله من قيمة الرسول بطرس الذي كان لكلامه تأثير بالغ على الحاضرين، وإنما لنؤكد الحقيقة الموضوعية وهي أن القرارات العامة الملزمة لأعضاء الكنيسة الجامعة أو عصمتها لم تكن محصورة برسول ما أو بشخص مهما سمت رتبته، وإنما بالكنيسة التي يعمل من خلالها الروح القدس " حينئذٍ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة " ( اع 15: 22 ).
تطور استعمالات اصطلاح عقائد
إن نص القرار الصادر عن المجمع الرسولي كان كالتالي : " لأنه رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عما ذُبح للأصنام وعن الدم المخنوق والزنى " ( أع 15: 28 ) . فهل هذه الوصايا ومثيلاتها هي ما يسمى الآن بحسب الاصطلاح الكنسي عقائد؟ من البديهي أن الوصايا مع أهميتها ليست سوى جانب واحد من الحقائق التي يتعلق بها أمر خلاصنا " إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا " ( متى 19: 18 ) . أما الجانب الآخر فهو الحقائق الإيمانية ، والتي هي موضوع البشارة المسيحية وجوهرها. " يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص ، فقال آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك " ( أع 16: 30-31 )، والواقع أن الإيمان الحي بيسوع المسيح كرب ومخلص هو مدخل وأساس للإيمان بجميع الحقائق الأخرى الضرورية للخلاص كأسرار الثالوث الأقدس والتجسد والفداء والقيامة والمجيء الثاني ... وفي نفس الوقت لإمكانية إتمام الوصايا لأن المسيح هو " الطريق والحق والحياة " ( يو 14: 6 ).
مقدمة علم اللاهوت العقائدي والمقارن لكنيسة الروم الأرثوذكس
لكي نأخذ فكرة واضحة عن موضوع واهمية اللاهوت العقائدي والمقارن يحسن بنا أولاً أن نلقي بعض الضوء التي تحملها كل من الكلمات المؤلفة لعنوانها:
اللاهوت
تشتق كلمة " لاهوت Θεολογια من دمج كلمتين " θεος الله وَ λογος كلمة " ، وتعني لغوياً كلاماً حول الله. وقد ارتبط اسنعمالها في لغة اليونان الأقدمين مع المفاهيم الوثنية عن الألوهة من أساطير وسحر ، ولهذا تجنبها المسيحيون الأوائل نظراً لما يتركه استعمالها من انطباع سيء بسبب هذا الارتباط.
ولكن اعتباراً من القرن الثالث أخذت هذه اللفظة تدريجياً وبفحوى جديد تحتل مكاناً بارزاً في علم الاصطلاحات اللاهوتية، فمثلاً أوريجانس يسمي " لاهوتيين الذين يتكلمون عن الله وهم ممتلؤون من الروح القدس ... مثل موسى وبقية الأنبياء عموماً وبصورة خاصة يسوع المسيح " . أفسافيوس القيصري يعتبر أن المسيحيين هم لاهوتيين لأنهم يرنمون تسابيح لله لكنه من بين هؤلاء يميز بشكل خاص كلاهوتيين ، المعلمين الكنسيين لأنهم يعلمون معرفة الحق الإلهي. القديس غريغوريوس النزينزي يؤكد أنه " ليس للكل أن يتكلموا عن الله ولا الأمر سهلاً بالنسبة للذين أتوا من التراب ( عامة البشر )...بل فقط للذين امتحنوا ووصلوا إلى الرؤية θεορια بعد أن طهّروا النفس والجسد ، لأنه ليس لغير الطاهر أن يلمس الطاهر ويكون بأمان مثلما لا يستطيع النظر الضعيف أن يحدّق في أشعة الشمس القوية ".
انطلاقاً من هذا المفهوم استعملت كلمة " لاهوت " والفعل المشتق منها θεολογω ليدلان على الرؤية الإلهية واتحاد النفس سرياً مع الله، لذلك عندما يقال مثلاً بأن الملائكة θεολογουσι لا يقصد أن الملائكة يتكلمون عن الله بل أنهم يرون الله، وبمعنى عام آبائي، فاللاهوتي هو الذي وصل بنور الروح القدس إلى رؤية المجد الإلهي، وهو ما يشمل جميع الملائكة والقديسين. لكن ليس كل من رأى مجد الله عبّر بالضرورة عن هذه الرؤية أو سجّلها كتابة، ولهذا فكلمة لاهوتي بمعناها الخاص تعني من جمع بين الرؤية الإلهية وبين إمكانية التعبير عنها بإلهام الروح القدس . وهو ما ينطبق على الأنبياء والرسل والآباء القديسين . أما بالمعنى الأخص فهي تشير إلى دخول متميز إلى عالم الرؤية الإلهية ومقدرة فريدة في الحديث عنها. ومن هنا نفهم لماذا عبر تاريخ الكنيسة الطويل لقِّب ثلاتة قديسين فقط باللاهوتيين ( يوحنا الإنجيلي، غريغوريوس النزينزي ، سمعان اللاهوتي الجديد ) . وبالطبع فهذا لايعني أن القديسين الآخرين لم يصلوا إلى الرؤية الإلهية بل أن اللاهوتيين الثلاثة حلقوا وتميزوا في التعبير عنها بشكل خاص.
بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج بأن اصطلاح " لاهوت " قد تطور من مفهوم الكلام عن الله بالروح القدس ، بعد رؤية مجده، إلى مجرد الكلام عنه. ومن الكلام عن الله الثلاثي الأقانيم إلى الحديث عن عمل الأقانيم أو ما يسمى بسر التدبير الإلهي أو سر الخلاص. وأخيراً صار في المدارس اللاهوتية العلم الذي يبحث في كل ما له علاقة بالإعلان الإلهي ومسيرة الكنيسة في التاريخ.
بعض اللاهوتيين الأرثوذكس يرفضون أن يسموا اللاهوت علماً والبعض الآخر يقبل ومنهم من يتحفّظ. ما يهمنا نحن بالدرجة الأولى ليس التسميات بل التذكير بالطابع الروحي والحياتي لدراستنا اللاهوتية وعدم فصلها عن مفهوم الرؤية الإلهية . لأنه بصورة بديهية من لم يتعرف على الله شخصياً أي لم يصل إلى الشركة والاتحاد معه بنعمة الروح القدس فكيف بإمكانه أن يتكلم عنه وهو المجهول بالكلية والمختلف بصورة مطلقة عن كل ما نراه من المخلوقات ؟ " فبمن تشبّهون الله وأي شبه تعادلون به ؟ " ( أش 40: 8 ) " لأنه كما علت السماوات على الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن افكاركم " ( إش 54: 9 ) . صحيح أن هناك كلام كثير عن الله ، ومن بينه كلام الكتاب المقدس ذاته. ولكن معرفة كل ما كتب عن الله وحتى حفظه غيباً والتأمل الفكري في هذه المعرفة وحتى الكتابة عنها لا يكفي لأن يجعل الإنسان عارفاً حقاً بالله أي لاهوتياً ، بل يجب أن تقترن معرفة كلام الله بالإيمان ، والإيمان بلقاء شخصي حيّ. لأن الحق ليس كلاماً بل شخصاً " أنا هو الطريق والحق والحياة وليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي " ( يو14: 6 ).
من هنا لا يحق لمن ليس لديه معرفة مباشرة أي شركة شخصية مع الله أن يتكلم عنه. وإن لم توجد هذه المعرفة فعلى الأقل أن يصير اعتماد تام على خبرة الأنبياء والرسل والقديسين في معرفتهم لله ، ومحاولة الحياة بحسب هذه الخبرة في كنيسة الله بمساعدة روح الله الساكن فيها. بكلمة أخرى الذي هو خارج جسد المسيح وخارج الجهاد ضد الشيطان والخطيئة من أجل الوصول إلى الكمال في المسيح لا يمكنه ان يكون لاهوتياً ولا أن يتكلم عن أسرار ملكوت الله ، لأنه حتماً سيخلط بين أفكاره البشرية المسبقة والمظلمة بسبب الخطيئة، وبين حقيقة المسيح. ولن ينفعه أبداً استعمال فكر أو منطق أو اعتماد على مؤهلات علمية. وأي مؤمن مسيحي بسيط يعيش إيمانه بصدق هو لاهوتي أكثر منه وتنطبق عليه كلمة القديس ذياذوخوس " ليس هناك أفقر من الفكر الذي يتكلم عن الله θεολοει وهو يقف بعيداً عنه " .
العقائدي
استعملت كلمة δογμα " عقيدة " عند الإغريق القدماء لتدل على معانِ متقاربة منها " رأي ؛ تعليم فلسفي ؛ وصية؛ أمر ؛ قانون عام " وقد وردت هذه اللفظة بمعانيها المتعددة بضع مرات في الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم، وخمس مرات في العهد الجديد. إنما بالمعنى الخاص الذي ستستعمله الكنيسة فيما بعد كقرار ملزم صادر عن مجمع ذي سلطة كنسية عليا، فلم يرد إلا مرة واحدة في أعمال الرسل كنتيجة لمجمع الرسل الذي التأم في اورشليم " وإذ كانوا يجتازون المدن كانوا يسلمونهم العقائد التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم ليحفظوها " ( أع 16: 4 ).
مجمع أورشليم كمثال للمجامع المسكونية المحددة للعقائد
ولنتوقف قليلاً عند هذا المجمع ذي الأهمية الفائقة لأنه على مثاله ستنعقد فيما بعد المجامع المسكونية والتي سيصدر عنها تحديدات عقائدية فنلاحظ الأمور التالية:
1- إن انعقاد المجمع الرسولي لم يتم بهدف صياغة عقائد أو قضايا جديدة لم تكن معروفة من قبل، وإنما سبب الدعوة إليه كان النزاع الطاريء الذي حدث بين الرسولين بولس وبرنابا من جهة وبين بعض المسيحيين من أصل يهودي من جهة أخرى حول السؤال إن كان يجب أن يحفظ الأخوة من أصل أممي الناموس الموسوي أم لا ؟ ( أع 15: 1-2 ) .
2- أعضاء المجمع النافذون هم الرسل والمشايخ أي الرعاة الكبار الممثلون للكنيسة كلها " فاجتمع الرسل والمشايخ لينظروا في الأمر " ( أع15: 6 )
3- قرارات المجمع صدرت بعد مباحثات كثيرة وبرز بين المتكلمين الرسل أي الشهود الرسميون ليسوع ، ولكن المهم أن القرار صدر باسم الروح القدس وباسم الكنيسة " لأنه قد رأى الروح القدس ونحن " ( أع 15: 28 ) . وهذه العبارة ليست شكلية، ولا تعني كما يظن البعض أنه بمجرد أن اجتمع ممثلون رسميون عن الكنيسة فقراراتهم بالضرورة هي قرارات الروح القدس. إنما لكي يتم ذلك يجب أن يكون الاجتماع باسم يسوع ولأجل مجده" متى اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم " وأن يكون بين الحاضرين من عندهم الروح القدس فعلاً، وصاروا قادرين أن يعرفوا مشيئته ويرشدوا الآخرين إليها.
4- إن الذي صاغ ونطق بالقرار الرسمي الذي قبل به الحاضرون بعد ذلك لم يكن الرسول بطرس بل يعقوب أخو الرب أسقف أورشليم والمترئس على ما يبدو للمجمع " لذلك انا أرى ألا يُثقل ... " ( أع15: 19 ) . نقول هذا لا لننقص لا سمح الله من قيمة الرسول بطرس الذي كان لكلامه تأثير بالغ على الحاضرين، وإنما لنؤكد الحقيقة الموضوعية وهي أن القرارات العامة الملزمة لأعضاء الكنيسة الجامعة أو عصمتها لم تكن محصورة برسول ما أو بشخص مهما سمت رتبته، وإنما بالكنيسة التي يعمل من خلالها الروح القدس " حينئذٍ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة " ( اع 15: 22 ).
تطور استعمالات اصطلاح عقائد
إن نص القرار الصادر عن المجمع الرسولي كان كالتالي : " لأنه رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عما ذُبح للأصنام وعن الدم المخنوق والزنى " ( أع 15: 28 ) . فهل هذه الوصايا ومثيلاتها هي ما يسمى الآن بحسب الاصطلاح الكنسي عقائد؟ من البديهي أن الوصايا مع أهميتها ليست سوى جانب واحد من الحقائق التي يتعلق بها أمر خلاصنا " إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا " ( متى 19: 18 ) . أما الجانب الآخر فهو الحقائق الإيمانية ، والتي هي موضوع البشارة المسيحية وجوهرها. " يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص ، فقال آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك " ( أع 16: 30-31 )، والواقع أن الإيمان الحي بيسوع المسيح كرب ومخلص هو مدخل وأساس للإيمان بجميع الحقائق الأخرى الضرورية للخلاص كأسرار الثالوث الأقدس والتجسد والفداء والقيامة والمجيء الثاني ... وفي نفس الوقت لإمكانية إتمام الوصايا لأن المسيح هو " الطريق والحق والحياة " ( يو 14: 6 ).